من هي أم جويرية؟ وما كات ابنلاؤها؟ وهل صبرت أم جزعت؟ فهي عبرة لكل مبتلى!!...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
سأروي لكم قصة واقعية، ولكن سأرويها بأسلوبي فعذراً تحملوني
الحلقة الأولى
البداية:
اليوم يوم الزفاف، امتلأ المنزل ضجة ومرح، والكل يسأل أين العروس؟ لقد كانت العروس متعبة من وضع اللمسات الأخيرة للمنزل مثل كل العرائس ولكن ليس هذا ما يتعبها حقاً! فلقد تذكرت العروس ما قد حدث في الماضي القريب.
إنه وفاة عمها القريب جدًا إلى قلبها ولكن هذه هي سُنة الحياة، ولما مرت به من حالة اكتئاب قرر والدها وخطيبها الإسراع في الزواج، عسى أن يكون ذلك منفذاً تخرج به من حالة الاكتئاب التي كانت تعيشها هي وعائلتها، فلقد كان هذا العم حنوناً وعطوفاً على الجميع.
- ماذا بك يا عروسة؟! أين ذهبت؟ نعم حقاً لك أن تغرقي في الأحلام والرومانسية، كانت تلك صحوة للعروس التي أحمر وجهها خجلاً من المقولة وطأطأت رأسها أرضاً.
- هيا يا عروس الكل في انتظار القمر.
اضطربت العروس من المقولة فهي لم تعلم لم الاستعجال الذي طرأ فجأة فأدى إلى التعجيل بالزواج، حتى أن بيتها لم يكتمل كله وبقى به بعض النواقص.
- هاه هاه هاه كفى كسوفاً وهيا بنا إلى الخارج.
وأخذت القائلة العروس من يدها وخرجت بها إلى الصالة، فإن العرس سيتم في البيت فلا يصح بحسب الظروف الاحتفال أو إظهار أي مظاهر بهجة شديدة بحسب العرف، وحتى لا تنطلق ألسنة الناس بالقيل والقال وما يصح وما لا يصح.
وخرجت العروس وهي في أحلى حلة وهو الفستان الذي تحلم به كل فتاة منذ ظهور أول علامات الأنوثة عليها وهو فستان الزفاف، وانبهر بها الجميع وخاصة العريس الذي اعتلت وجهه ابتسامة رقيقة مما زادت من احمرار وجه العروس.
وتم الزفاف وتم نقل العروس في موكب الزفة المعروف في مصر إلى بيتها الجديد، وإلى حياة جديدة مع إنسان جديد.
******
الحلقة الثانية
خبر سار و لكن!
مرت الأيام والليالي على العروسين؛ وانتهى شهر العسل كما يقال، وبدأت الحياه الواقعية في الظهور فلقد كان الزوج ظابط في الجيش، فما إن انتهت الإجازة المسموحة فإذا به يعود مرة أخرى إلى العمل، وكما هو معروف، فإن الخدمة تكون في مناطق بعيدة عن العاصمة، فكان يذهب بالأيام ويتركها وحدها في البيت بلا ونيس ولا أنيس ولكنها لم تشتكِ، لأنها كانت تعلم أن هذه هي طبيعة عمله وما بيده حيلة! ولم تتذمر، وكانت تنتظر رجوعه بفارغ الصبر والشوق كأي زوجة، ولكن كانت تتلقى منه عدم الاكتراث لهذا الشوق، لأنه كان يعود مكبوتًا ويريد الخروج مع الأصدقاء والترويح عن النفس، ولكنها كانت صابرة وتقول أن له الحق في الترويح عن نفسه لما يلقاه من عزلة عن العالم في باقي الشهر في عمله!
وجاء الخبر السار الذي خفف عنها؛ إنها حامل لقد منّ الله عليها بمن يملأ وحدتها!
ياه، لقد رزقها الله بالونيس، اللهم لك الحمد، سيكون هذا شغلها الشاغل!
وعندما أخبرت زوجها بهذا الخبر، فرح كثيرًا! وتمنت من الله أن يكون هذا المولود سببًا في تغير زوجها واهتمامه ببيته ومرت الأيام والليالي وإذا باليوم الموعود قد جاء!
فلقد كانت تمشي مع قريبة لها ذهبت معها إلى الطبيبة للمتابعة، وهي في شهرها السابع وإذا بها تقع بعد ما اشتبكت رجلها بشيء ما! وقامت وهي تتوجع وخافت عليها قريبتها!
- هيا بنا نرجع إلى الطبيبة لنطمئن.
- لا لا أنا بخير، هيا لنرجع ولكن لا تذكري ما حدث لأحد بالله عليك!
- ولكن! أنا بخير صدقيني استحلفك بالله لا تزعجي أحداً!
- حاضر ما دمت بخير فلا بأس.
- شكرًا لكِ أنا فعلًا بخير.
وكتمت ما بها من أوجاع، فهي لا تريد أن تزعج أحداً معها، وهي تمشي على أرجلها، فلا بأس وجع وسيذهب لحاله ورجعت إلى البيت، وخف الألم وحمدت الله، فلقد مر هذا الموقف على خير.
وجاء الليل، وبعد أن فرغت من المنزل، ذهبت لتخلد إلى النوم، وكان زوجها قد عاد من الوحدة، وخلد للنوم منذ ساعة تقريباً وإنه يوم الولادة! نعم! فكل ما تشعر به يؤكد إنها اللحظة التي سينطلق فيها وليدها إلى الدنيا لينير حياتها وحياة زوجها.
- اّه قم يا محمد إني أشعر أنني سألد!
- مممممممممـ.. ماذا بك؟ أتلدين فجأة هكذا؟! إنك في شهرك السابع! أكيد هذا إنذار كاذب!
- وماذا تريد؟ أن أعطيك تصريح بالولادة كما تفعل في تصريحات الخروج من الوحدة! قم يا رجل إنني سألد!
- حاضر، سأقوم، ويا رب نستطيع أن نجد من يوصلنا إلى المستشفى سريعاً، فكما تعلمين، نحن في منطقة مقطوعة!
- اّه قم يا رجل! أسرع! فلا أستطيع التحمل! اتصل بأحد ليوصلنا ووصلت بالفعل، في الوقت المناسب، وتم الكشف وخرج الطبيب ليؤكد إنها تلد بالفعل! وتمت الولادة على خير بحمد الله.
- اللهم بارك إنه ولد جميل رغم إنه ولد قبل ميعاده، نعم ولد ليغير حياتها إلى الأفضل إن شاء الله.
****
الحلقة الثالثة
موت الأمل
مرت الأيام على الولادة، أيام حلوة جميلة مليئة بالبكاء اللذيذ للطفل، نعم لقد أتى وأتت معه السعادة إلى البيت، فمنذ الولادة والزوج بدأ بالاهتمام بالبيت وبدأ يلزم البيت فترات أطول من ذي قبل، الحمد لله لقد بدأت الحياة تنتظم، رغم أن الطفل ولادته مبكرة فهو من المبتسرين، فيحتاج إلى الرضاعة الصناعية بدل الطبيعية ولكن الحمد لله على أن جاء إلى الدنيا بسلام.
وذات يوم بعد مرور ثلاثة أشهر على الولادة، والطفل في نمو طبيعي ولله الحمد وبعد أن أرضعته الزوجة الرضعة، كان عليها أن تذهب لإعداد الطعام لها ولزوجها.
-زوجي العزيز: هل عساك أن ترفع الطفل ليتجشأ؟ فلقد رضع لتوه وأريد الذهاب لإعداد الطعام!
- (قام بتأفف)، حاضر.. ضعيه هنا وسأحمله بعدما أنتهي مما في يدي.
- طيب، ولكن لا تتأخر عليه، فعليه التجشؤ.
- حاضر وذهبت لإعداد الطعام، وبعد مرور القليل من الوقت، سمعت ما أفزعها!
سمعت شهقة قوية من الداخل وصرخات الطفل، ثم خفت الصرخات لتسمع شهقات متتابعة!
هرعت إلى الطفل فاذا به نائمًا على ظهره ويسيل اللبن من أنفه وفمه، ولكن! أين الزوج؟
فإذا به يهرع من الصالة إلى الداخل!
- أين كنت؟ أتركت الطفل وحده على ظهره؟ ألم أطلب منك مراقبته ومساعدته على التجشأ؟ ألم تلق للأمر بالاً؟! أي الأباء أنت!
- لا رد! افسح لي الطريق.
ونزلت مسرعة إلى الشارع والطفل بين يديها بين شهيق وسكون.
أين تذهب؟! إنها منطقة مقطوعة حقاً، استجمعت أفكارها لتتذكر أن على بعد بضعة شوارع مستشفيتين، ركضت بكل ما تملكه من قوة حتى وصلت إلى أحداهما، فأسرعت إلى قسم الطوارىء.
-أغيثيني لو سمحت، ابني تجشأ نائمًا فدخل في أنفه اللبن!
- (ببرود) للأسف نحن في العيد ولا يوجد طبيب مناوب الآن! وكمان الطفل يحتضر أصلًا!
سمعت الأم الكلمات فلم تصدق، وأسرعت إلى المستشفى الأخرى على بعد شارع واحد ركضت، بل طارت إذا صح التعبير، فما هي إلا دقائق معدودة حتى وصلت إلى المستشفى الأخرى.
- لو سمحتم أحد يغيثني طفلي يحتضرأسرع الطبيب المناوب من الداخل وأخذ منها الطفل
واعتلت وجهه نظرة أسى وآسف لقد توفي الطفل منذ دقائق قليلة، للأسف ليس بيدينا شيء.
*******
الحلقة الرابعة
بريق أمل ضعيف
مرت الأيام بعد موت الطفل ببطء وثقل، وحالة الأم من سيء إلى أسوأ، فلقد كانت تعاني من حالة اكتئاب شديدٍ، وأي اكتئاب؟ لقد مات وليدها بين يديها! تتألم لمجرد التفكير أن بضع دقائق كانت تفرق في حياة ابنها الصغير، لو أسرعت قليلًا أو ذهبت إلى المستشفى الصحيح أو وأو، ولكن لا فائدة إنه قدر الله، فلم يكن ليعيش مهما فعلت وقد جاء أجله، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها، وكان أول ما قالت بعد فترة صمت طويلة، هو طلب الطلاق! فكانت تشعر أن زوجها كان سببًا في موت ابنها! فهو من لم يلقِ بالاً للطفل وتركه نائمًا على ظهره، فكانت ترى على يده دم ابنها!
وذهبت لتستريح قليلاً في بيت أهلها حتى هدأت، وذهب عنها غضبها قليلاً، وأرجعها أهلها إلى زوجها واستسلمت للأمر الواقع، فلم يلق أحدٌ بالاً بطلبها أصلاً، فما من فائدة للمقاومة أو الجدل، وهي ليس لديها أي مقومات للمقاومة، فإنها منهكة من الاكتئاب وطبعاً أثر ذلك على غذائها، فأصبحت ضعيفة منهكة القوى، فعليها الاستسلام ومجاراة الحياة.
ورجعت الحياة لطبيعتها إلا إنها لا تستطيع النسيان وفي ذات يوم شعرت بدوار شديد وغثيان وأسرعت إلى الحمام لتفرغ ما بداخل معدتها، ما هذا؟! ما هذه الأعراض! لا لا أكيد خطأ ما وتمنت أن يخلف الله ظنها فهي لم تفق من الصدمة الأولى بعد!
كانت ترتجف رعباً عند ذهابها إلى الطبيبة، فلم تدري إذا كان الأمر صحيحاً، أتفرح أم تبكي؟!
تضاربت داخلها المشاعر المختلفة ولم تفق إلا على صوت مساعدة الطبيبة تنادي عليها لتدخل!
ترددت قليلاً واستجمعت قواها وتوكلت على الله ودخلت، وبعد الكشف خرجت الطبيبة مبتسمة
- مبارك عليك أنت حامل وفي شهرك الثالث!
كان وقع الكلمات كالصاعقة! فهي مصدومة لا تعرف أعليها أن تضحك أم تبكي! ولكن بالطبع اشتعلت بداخلها نار الأمومة مرة أخرى، وارتسمت على شفتيها ابتسامة باهتة ضعيفة بسبب ضعفها أصلاً.
- ولكن حبيبتي عليك الاهتمام بنفسك وصحتك وغذائك فأنت ضعيفة جداً، وقد يؤثر ذلك على طفلك فاهتمي بنفسك على الأقل لطفلك، خرجت من عند الطبيبة مضطربة، حائرة، نعم، عليها الاهتمام بنفسها وبغذائها ولكن، كيف؟! فهي لم تنس بعد ما حدث في الماضي القريب! لا لا ستنسى! وتعتني بطفلها الجديد، فلن تخسر طفلها الثاني بسببها، أو بسبب ماضي قد مات! فما ذنب هذا الجنين ليعاني قبل أن ينفخ فيه الروح حتى!
ووضعت يدها على بطنها كأنها تعانق جنينها الجديد، وقد خلق بداخلها أملاً جديداً، وإن كان ضعيفاً.
***************
الحلقة الخامسة
وولدت، المبتلاة
مرت الأيام على الزوجة وهي تجاهد نفسها على النسيان من جانب والاهتمام بصحتها لطفلها الجديد من جانب آخر، اجتهدت كثيراً، ولكن لم يكن ذلك كافٍ لطفلها الجديد، فما زال يعتلي وجهها الحزن، حتى كاد يكون من قسمات وجهها وجاء اليوم الموعود، يوم ولادة الطفل الجديد كان يوماً في منتصف الشهر التاسع، حين شعرت الزوجة بأعراض الولادة، فقالت لأحد أشقائها أن يذهب معها إلى المستشفى، فلم يكن زوجها بالمنزل، بل كان في الوحدة، مقر عمله.
ولكن الأمر لم يكن سهلاً! فلقد عانت من ولادة متعسرة، استغرقت بضع ساعات لتخرج إلى الحياة طفلة، ولكنها قليلة الحجم خفيفة الوزن، ضعيفة إلى حد ما، ولكن الأم لم تلق بالًا لذلك بعد أن طمأنها الأطباء بأنها سليمة وأجهزتها تعمل جيداً، وأنها ستكبر مع الوقت والاعتناء بها، فإن ذلك يرجع إلى ضعف الأم أثناء الحمل! ولكن لا بأس.
جاءت المولودة لتنير حياة أمها مرة أخرى، ولتخفف عنها ما قد سلف، لم تكن الطفلة رائعة الجمال ولكن كانت في عين أمها حورية من الجنة! وتمر الأيام والمولودة في نمو، ولكن نمو ضعيف وتكبر ببطء إلى حد ما ولكن رغم ذلك كانت مفعمة بالحيوية والنشاط، وذكية إلى حد كبير! وكان ذلك يطمئن أمها، وحين بدأت تذوقها أمها الطعام كانت تلفظ الكثير منه، فكانت ما تزال ضعيفة وبعد مرور القليل من الوقت اكتشفت الأم أنها حامل! يالله! كم أنت كريم، فلقد عوضها الله بطفلين في وقت قصير، رحمتك يا أرحم الراحمين! كم أنت ودود ولطيف، اللهم لك الحمد.
وفرح البيت كله وعمت الفرحة جميع الأهل، ولكن من لم يكن بمثل سعادتهم، هي الطفلة!
التي قل اللبن وهو غذائها الأول من ثدي أمها بتكوين جنين جديد داخل أحشاء أمها، حتى أصبح لا فائدة له، فتركت الطفلة ثدي أمها، مع ضعف وجباتها الأخرى من طعام في سن مبكر جداً، وبدأت الرحلة. رحلة المبتلاة.
***********
الحلقة السادسة
مجبر أخاك
نشأت الطفلة في كنف والديها، بسيطة، نشيطة (رغم ضعف جسدها وغذائها) مرحة، وذكية، ومتحملة للمسؤلية! نعم فهي منذ أن كان عندها بضع سنين ومع ولادة أمها لطفل جديد، كانت تعمل على مساعدتها في بعض الأشياء الموائمة لسنها! وذلك ما كان يدهش أمها! فهي لم تكن تطلب منها شيئاً ولكنها كانت تشعر دوماً باحتياج أمها لها، مما جعل لها مكانة خاصة في قلب أمها.
وتمر الأيام والليالي، يكبر الطفلان في سلام وبسلام، تنتظم حياة الأسرة إلى حد كبير، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان! تحدث للأب حادثة في يوم عمله، وتحدث له عاهة رغم أنها بسيطة ولكنها تؤدي إلى خروجه من الجيش بمعاش مبكر، ويضطر إلى البحث عن وظيفة جديدة، وما كان منتشرًا في ذلك الوقت هو النشاط السياحي للبلد، فيدخل الأب المجال وتكلف إليه مهمة في ألمانيا ستستغرق بعض الوقت، فعمل على إعداد أسرته للسفر معه، فهو لم يكن ليتركهم وحدهم بدون عائل.
وتسافر الأسرة إلى البلد الأوروبي، البلد الغريب الذي تتجسد فيه قمة معاني العنصرية والنازية!
ورغم صغر سن الطفلين إلا أنهما لم يسلما من هذه العنصرية عن طريق مضايقات في يومهم الدراسي في المدرسة، أو حتى بمجرد المشي في الطرقات لمجرد أن شكلهما يؤكد هويتهما بأنهما عربيين مسلمين.
وكما كانت الطفلة تعتني دومًا بأخيها الصغير، فأخذت على عاتقها مهمة الاعتناء به جيدًا في هذه الغربة، رغم صغر سنها فهي ما تزال في الصف الثالث الابتدائي، خاصة أن الوالدين لا يكونا معهما في المدرسة أو في الطريق حين العودة من اليوم الدراسي إلى المنزل، كانت تكتم ما يعانيه كلاهما من مضايقات حتى لا تزعج أبويها، وتطلب من أخيها دوماً السكوت، فماذا سيفعل والدها؟! فهو مضطر إلى ذلك المنصب حتى يستطيعوا العيش، فصبرٌ جميل، هانت! أوشكت المدة المحددة لبقائهم في الغربة على الانتهاء.
وقبل انتهاء المدة بقليل، شاء الله أن يرزقهم بأخٍ جديد، أمل جديد، عمل على تخفيف حدة الشعور بالغربة والقهر وكما هي عادة الطفلة ما إن ولد الأخ الجديد حتى أخذته في أحضانها وغمرته بالرعاية والحب، أحبته كثيراً وكانت تشعر أنه ابنها وليس أخوها؛ مما كان يزيد من حب أمها لها، فلقد كانت تدهشها دوماً بهذا الحب الفياض داخلها، وكأنها ولدت بداخلها غريزة الأمومة منذ أول يوم فتحت فيه عينها على الدنيا!
ياه مرت الثلاث سنوات المدة المقررة بسلام والحمد لله. مرت ثقيلة، طويلة، ولم تشتك الطفلة ولا أخيها من شيء حتى انتهت المدة وقد حان يوم العودة إلى الوطن! كم كان يوماً طويلاً جداً، ومليئًا بالمشاعر المختلفة، من حنين وشوق وارتياح، نعم! ارتياح من أناس يدعون إلى الحرية والديمقراطية وهم لا يعلمون عن ذلك شيئاً! اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام، على دين السماحة والحرية الحقيقية.
عادوا إلى أرجاء الوطن، إلى أحضان الأسرة، إلى دفء الألفة وانهالت عليهم الأسئلة من الأهل والأحباب عن ماذا رأوا هناك؟ وعن القمة الصناعية والديمقراطية الحقيقية، وعن العيشة الرغدة الهنية !
وكان رد الأب: ياه، لقد مرت الثلاث سنوات كأنهم ثلاثة أسابيع لا أكثر!
*******
الحلقة السابعة
بداية الرحلة
رجعت الأسرة بعد أيام الغربة إلى الوطن، وإن كان فيه ما كان، يكفي عدم وجود العنصرية!
وتمر الأيام ويكبر الأطفال، وما زالت الطفلة التي أصبحت صبية، تعتني بأخويها وخاصة بأخيها الصغير الذي ارتبطت به وارتبط بها والحياة مستقرة الحمد لله لفترة طويلة، ويكبر الأطفال لتصبح الطفلة فتاة، بسيطة كما هو طبعها دوماً، ولكن ما لم يتغير فيها هو ضعفها! ورغم ذلك فهي مليئة بالنشاط والحيوية والعطاء.
وفي يوم من الأيام وهي في سن السادسة عشر، كان أحد أيام العيد، وكان في الشتاء، اجتمعت العائلة كل معتاد أمام التلفاز ينتظرون برامج العيد المتنوعة.
- أمي: سأذهب لأصلي العشاء ثم آتي لأنام في حضنِك! ابتسمت لها الأم بأن نعم سانتظرك.
توضأت ولبست إسدالها وبدأت تصلي، وهي في الركعة الأخيرة أطالت السجود وأخذت تدعو لها ولأبويها وللمسلمين، وما إن رفعت رأسها لتقرأ التشهد فإذا بها تشعر بشعور غريب! هناك شيء ما خطأ !؟
شيء ما في عينيها لا تستطيع منه الرؤية! فالرؤية لم تعد مثل ذي قبل! ماذا حدث؟! لم ترد أن تزعج معها أحد، ولم تبح بشيء، لعله إرهاق ويذهب مع الراحة!
نعم، سأخلد إلى النوم، واعتذرت لأمها وأبيها بأنها نعست وستخلد إلى النوم، ولكنها لم تنم إلا بعد وقت فلقد أخذت تراودها المخاوف والأفكار، ولكنها استعاذت بالله من الشيطان وأجبرت نفسها على النوم.
وفي اليوم التالي، كانت ترقد في سريرها، لم تكن نائمة، ولكنها مغمضة العينين تخشى أن تفتحهما ولكنها توكلت على الله وقررت أن تفتحهما وكان ما تخشاه! ما زال هذا الشيء الذي يعيق رؤيتها في إحدى عينيها موجوداً، وقررت أن تخبر والديها بما تعاني، فهي لم تكن لتشتكي إلا إذا تفاقم الأمر، وإن كان ذلك خطأ فهي لم تعتاد على الشكوى منذ الصغر، فهي تعلم أن هناك دوماً ما يشغل والديها أهم من بعض التعب مهما كان حجمه.
وما أن أخبرت والديها حتى فزعا، وذهبا بها إلى المستشفى، فاحتار الأطباء فعينها ليس بها شيء!
وذهبوا إلى طبيب آخر وآخر، ولا فائدة! فالكل حيارى في هذه الحالة الغريبة حتى شار عليهم أحد الأطباء أن يعملوا على تحليل دمها، بدا الأمر غريبًا في أوله، فما علاقة العين بالدم!
ولكنهم لم يكن لهم سبيل آخر، فلن يخسروا شيئاً، وعملوا على تحليل دمها في إحد المستشفيات العسكرية
كان الأب مع ابنته وما إن رأى الطبيب التحليل إلا وقال:
- أين المريض؟
- ها هي معي، إنها ابنتي!
- مممممممممـ، أريدك على انفراد لو سمحت.
وذهبا وتركا الفتاة بمفردها، ماذا هناك؟ لما أخذ الطبيب والدي على انفراد؟ لا بد أن الأمر خطير!
ودمعت عيناها يا رب ألطف بي ! وما أن خرج الأب إلا وقد تأكدت الفتاة أنه شيء خطير، فلقد تبدلت نظراته أو إن صح القول تبدل كُلياً!
-هيا يا ابنتي سنذهب إلى الغرفة، ستبقين قليلاً، يريد الأطباء عمل بعض الفحوصات.
- أبي: ماذا بي؟!
- هاه! لا شيء، هيا
وذهبا إلى الغرفة ونظر إليها أبوها وابتسم ابتسامة باهتة ثم انصرف، مرت ساعات وهي وحدها في الغرفة، لا تفهم شيئًا، ولكن تشعر بالخوف ! ماذا بي؟! وإذا بأمها تقتحم الغرفة ووجهها غارق في الدموع واحتضنتها، ذهلت الفتاة، أمي ماذا أتى بكِ؟ ماذا بي يا أمي؟ ماذا بي؟! وسالت دموعها واختلطت بدموع أمها حين قالت:
- بنيتي أنتِ مصابة بالسرطان!
******
الحلقة الثامنة
وتستمر الرحلة
صارالبيت كئيباً، ثقيلاً بدون الابنة، فهي لا تزال في المستشفى لإجراء الفحوصات ولإتمام العلاج، ولقد تأثرت العائلة بأسرها خاصة الشقيق الأصغر، الذي لم يصدق ما حدث لأخته، تلك الأخت العطوفة الحنونة التي طالما احتوته في كنفها.
كان نوع السرطان الذي عندها هو سرطان الدم، وهو من أهون أنواع السرطان، ولكن الحالة كانت متأخرة إلى حد ما، وذلك ما أثر على شبكية العين، حيث التهم المرض جزء منها، ولكنه بعد الفحص تأكد للأطباء أنه من النوع القابل للعلاج، ولله الحمد.
وبدأت حياة الفتاة تأخذ منحنى جديد، تغير داخلي وخارجي.
أما الخارجي فهو من آثارالعلاج الكيماوي: من سقوط للشعر، الضعف، القيء المستمر...إلخ.
أما الداخلي: فكان يكمن في الصبر والاحتساب، والرجوع إلى الله، لم تكن قبل ذلك ترتكب الكثير من الكبائر، كانت فتاة عادية بلا حجاب، ولكنها كانت منطوية قليلًا فلا علاقات لها، ونادراً ما تخرج من البيت إلا للذهاب إلى المدرسة أو لزيارة بنات الجيران.
غضبت أول الأمر وتساءلت لماذا يحدث لي ذلك؟ ولكن سرعان ما استغفرت الله ورضيت بقضاء الله.
وما كان يخفف عنها ألمها قول الأطباء بأن هناك عملية ستتم بعد فترة من العلاج، وسترجع إلى حالتها الطبيعية وتستطيع ممارسة حياتها أحسن من ذي قبل، والفترة المقررة هي خمس سنوات. ورغم ذلك كانت تعيش على هذا الأمل، وتحمد الله أنه كما ابتلاها بالمرض، سخر لها العلاج.
والتحقت بالجامعة ومارست حياتها طبيعي جدًا، دون شكوى أو تذمر أو تهاون، على هذا الأمل وكانت كل يوم يمر وهي في قرب إلى الله أكثر من ذي قبل، وكيف تشكو والله قد اصطفاها دون الكثير من خلقه؛ ليكفر عنها ذنوبها في هذه الدنيا قبل الآخرة.
كم هو كريم ربنا، هو أعلم بحال عباده.
ونسيت أنها مريضة! نعم نسيت حقيقة، فلقد من الله عليها بنعمة جديدة!
اكتشف العلماء نوع من الكيماوي جديد على هيئة حبوب، فلا وجع حقن، ولا سقوط شعر، ولا قيء ولا مضاعفات أخرى
اللهم لك الحمد، والله حليم رحيم بعباده، فهي تأخذ الأجر بدون ألم! وهانت المدة قاربت على الانتهاء، الحمد لله، سيأتي ميعاد العملية، وينتهي كل شيء وكأن شيئًا لم يكن. وكانت في السنة قبل النهائية من دراستها بالجامعة، وهي متفوقة في دراستها، فهي تأبى الفشل.
كانت العملية تعتمد على أخذ جزء صغير من نخاع أحد أخويها (من يتطابق مع أنسجتها) وزرعه بداخلها، ولن يتأثر أحد، فقط أحد أخويها، فلا ينفع أي متبرع آخر حتى أبويها! وتمت التحاليل لتحديد الأخ المناسب من الأخوين، وذهبوا بالتحاليل إلى الطبيب لتحديده، وفتح الطبيب المظروف وقرأه وقال دون أن يرفع عينيه عن الورق:
- للأسف! لا يوجد تطابق من أحد الأخوين معها لن تتم العملية!
**************
الحلقة التاسعة
هل سيتحقق الحلم ؟
لم يكتب الله لها أن تعمل العملية، بالتأكيد خير، وسيبقى عليها أن تكمل باقي عمرها بالأدوية إلا أن يجد في الأمور جديد، حزنت قليلًا ولكنها لم تغضب أو تعترض، فهذا هو قضاء الله لها، أكيد هذا هو الخير لها، ولله الحمد.
ولكن ما كان يحزنها حقًا! هو أنها لن تستطع أن تكون طبيعية في أعين الناس، فهي لا تشعر بألم، ولكن يبقى للناس المظهر بأنها مريضة بمرض خطير!
وأكثر ما كان يحزنها، مثل أي فتاة هو: أنها لن تتزوج، ولن تحظى بالأمومة التي طالما حلمت بها، وحلمت بمخزون الحنان الفياض بداخلها يوضع في إطاره الصحيح وهو الأمومة، فهي تعشق الأطفال وتربيتهم!
فمن ذا الذي سيرضى أن يتزوج من مريضة بمثل هذا المرض؟! إنه ليس خطيرا جداً ولا يورث، ولكن مجرد اسمه يكفي لتنفير الكثير من الزواج منها!
وتأكدت لها المقولة التي سمعتها يوما ما خلسة من أمها، أنها لن تتزوج وستبقى معهم وتحيا حياة كريمة في بيت أهلها، وأسلمت أمرها لله، فهذا هو المكتوب لها في الدنيا والآخرة خيرٌ وأبقى! ووضعت همها في المذاكرة والتفوق، فيجب أن يكون لها دورٌ في الحياة، وإن لم يكن كأم كما تمنت!
وقررت إغلاق قلبها نهائياً عن حتى مجرد الإعجاب بأي شخص، فما لا يكون آخره الزواج الحلال فلا فائدة منه وإن كان مجرد مشاعر بداخلها!
وهي في آخر السنة النهائية، لاحظت أن هناك شخص ما يراقب تحركاتها، زميل في الكلية ولكنها لا تعرفه، فهي لا تختلط بالرجال! ولكن يبدو عليه الجدية والاحترام والالتزام . مجرد تهيؤات، نحي ذلك عن تفكيرك ولا تشتتيه، فقد تكوني تتوهمين، وآخر الأمر كله لا فائدة!
وفعلًا نزعت تلك الأفكار، وأكملت حياتها كما كانت.
لكن في آخر يوم لها في الكلية، وهو المعروف بيوم التخرج إذا به يتقدم نحوها ويسألها عن هاتف أبيها فهو يريد أن يتكلم معه بشأن التقدم إليها! ترددت، ولكنها أعطته رقم الهاتف، وانصرف كلاهما بدون أي كلمة أخرى.
وخفق قلبها بعد أن رجعت إلى البيت، فهي لم تكن في وعيها قبل ذلك، تتخبط الأفكار في رأسها.
أيمكن ذلك أن يحدث؟ أن تتزوج، ويتحقق حلمها؟ أصحيح ما فعلت بأن أعطته رقم الهاتف؟ أحرام أنها وقفت واستمعت إليه هذه الدقائق البسيطة؟ وغيرها من الأفكار والتساؤلات، ولكن ما حدث قد حدث، ولا يمكن الرجوع فيه، يا رب إن كنت قد أخطأت فسامحني فلم أكن أقصد.
ومرت الأيام بعد التخرج دون جديد، إلا أنها قررت لبس النقاب!
واجهت بعض المقاومة من أهلها، ولكنها كانت مقاومة بسيطة وسرعان ما انتصرت ولله الحمد ورضوا رضا تاماً. ولكن هذا الشخص لم يتصل؟ لمَ؟ وما أجبره على ذلك في بادىء الأمر؟! لا بأس، الحمد لله وسامحني يا رب إن كنت قد أخطأت في مجرد الاستماع إليه.
وقالت لها إحدى صديقاتها على أنها أتت لها بعريس ثانٍ! وفعلًا هاتف أبيها تلفونياً، وحدد ميعاد لمقابلته، قبل أن يأتي للبيت للرؤية الشرعية، وتقابلا وتكلما، وقررا الاستخارة قبل أن يحددا موعد الرؤية، ورجع الأب سعيدًا، فهو أخ ملتزم، محترم، جاهز كما يقال.
وخفق قلب الفتاة أيمكن ذلك أن يحدث؟! أن تتزوج! ولم لا، فالله على كل شيء قدير!
ولكن زميلها الذي تكلم معها في شأن لا لا، لا تفكري فيه، إنه لم يتصل ولا يصح التفكير فيه، كان اليوم المحدد للمكالمة التي سيتحدد فيها موعد الرؤية، رن الهاتف، ورفع الأب السماعة ليسمع من الجهة الأخرى: "السلام عليكم عمي؟! آسف ولكني لا أستطيع أن أتزوج بفتاة مريضة!".
********
الحلقة العاشرة
أجمل هدية
تردد الأب كثيرًا قبل أن يبلغ ابنته بالرد، ولكن ما باليد حيلة، وأخبرها، وحزنت قليلًا لم تحزن عليه، فهذا قدر الله وهو لم يكن من نصيبها، ولكن ما أحزنها هو رده، كان يمكنه أن يتحجج بأي حجة أخرى دون أن يجرحها هذا الجرح، الله يسامحه، ولكن الحمد لله أكيد هذا خير، بدلًا من أن يعيرها بذلك باقي عمرها.
ولكن الله كان قد ادخر لها ما هو خيراً منه، فما إن مرت أياماً قليلة حتى أتاها أبوها بخبر جديد.
- بنيتي: هل تدرين؟ لقد هاتفني شخص اليوم وقال أنه يريد مقابلتي ليتقدم لكِ، وقال أنه كان زميل لكِ في الكلية.
وخفق قلبها، أحق هذا؟ لقد اتصل! ولكن لم تأخر كل هذه المدة؟ كل شيء سيتضح، وسامحني يا رب إن كنت قد ظننت فيه سوء.
وجاء لمقابلة أبيها، وقال كأنه يبرر لها تأخره أنه كان في انتظار معرفة موقفه من الجيش، ليكون واضح وصريح في الحديث عن ظروفه كاملة، وزاد إعجابها به، فهذا هو الرجل الذي يمكن الاعتماد عليه لتكمل الباقي من عمرها بجانبه، وكان عليه أن يؤدي خدمته العسكرية، ولكن ذلك لم يكن ليغير شيء في الموضوع فلقد اقتنع به أهلها وهي قبلهم!
وتمت الخطبة ودخل الفرح قلبها الفرح الذي قلما عرف طريقه إلى قلبها، ولكن الحمد لله لقد عوضها الله بهذا الشخص، الذي كان يعاملها أحسن معاملة، وكان يشعرها دوما بأنها سليمة معافاة، وليس بها شيء يعيبها أن تكون زوجة وأم.
حمدًا لله، كريم فما يمنع إلا ليعطي، ويعطي أكثر مما يتمناه العبد !
وتمر الأيام، والخطيب يؤدي الخدمة العسكرية بسلام، وقد تقرر أن يتم الزفاف بعد أن ينتهي من تأدية الخدمة العسكرية بسلام، وفي يوم كانت تمسك بعلبة الدواء الخاص بمرضها لتأخذ منه الجرعة المطلوبة كالعادة، فإذا بها تتساءل، لمَ لم أقرأ ما في محتوى النشرة من قبل؟ فهي بعادتها تحب أن تفهم كل شيء، فلم لا ما يخص مرضها؟! لعلها تتعرف عليه أكثر، تتدبر في حكمة الله وتحمده على نعمة الدواء الذي سخره لها، وأخذت تقرأ التركيبة، دواعي الاستخدام، موانع الاستخدام، ماذا؟!
وصعقت! فلقد قرأت ما لم يخطر ببالها مطلقاً! من موانع الاستخدام: الحمل والرضاعة.
يالله! الحمل! الرضاعة! الأطفال! التربية! حلم حياتها مرة أخرى ينهدم أمام عينها!
ولكن المشكلة أكبر من ذلك خطيبها لا يعرف ما ذنبه في أن يحرم من الأطفال؟!
وقررت أن تصارحه بما علمت، وتترك له الاختيار.
فهذا قدرها من البداية وهي راضية به، ولكن هو يمكنه أن يغير ذلك بأن يتركها ويتزوج مِن من تلد له الأطفال، فهذه أمانة ويجب أن تصارحه، وما أن رجع البيت إلا وأخذت الهاتف وقررت أن تخبره هاتفياً، فهي لن تستطيع مواجهته عندما يأخذ قراره، وكان من رده ما أذهلها وزاد من تمسكها به واحترامها له: "أنا عندما اخترتك، اخترتك أنت واتخذت قراري بأن أكمل حياتي معكِ، وعلمت كل ظروفك، وراضٍ بها مهما كانت".
والحمد لله.. وذاب قلبها وحمدت الله بأن هداها به، بأجمل هدية!
**************
الحلقة الحادية عشر
الحلم
مرت الأيام عليها وهي في قمة السعادة والشكر لله، لقد أثابها الله بهذا الإنسان على ما صبرت عليه من بلاء، ويا له من ثواب وأجر! ومرت أيام الخدمة العسكرية بسلام، ولم يبقى عليهم إلا تهيئة منزل الزوجية.
وتم الزفاف البسيط، وعاشت معه، عاشت أجمل أيام عمرها، ونسيت كـل ما عانته قبل الزواج!
ولكن هناك ما يؤرّق صفوها دائمًا، ضميرها! فهي تشعر دائمًا أنها السبب في حرمانه من الأطفال، وإن كان هو راضٍ بذلك، فذلك ما يزيد ضميرها تأنيباً، فكانت دائما تشكو إلى الله ضعف قوتها وتسأله أن يعينها على حسن التبعل، عسى أن تكون أهلاً لهذا الزوج الصالح، وكانت تبكي عندما تصلي صلاة القيام سائلة الله أن يدبر الأمر من عنده، وكانت المفاجأة!
لقد اكتشفت بعد مرور عدة شهور أنها حامل!
نعم. لقد استجاب الله دعاءها وحقق لها أمنيتها بأن تكون أماً، ولكن! الجنين؟!
فالدواء كافٍ بأن يدمره تدميراً، وكانت توقفت عن أخذه مدة خشية ذلك الموقف ولكن، استر يا رب!
وهرعت هي وزوجها ليطمئنا، فإذا الجنين بخير والحمد لله. فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون!
ولكن يجب عليها أن تتوقف عن أخذ الدواء، وكانت في حيرة من أمرها، أتضحي بنفسها أم بجنينها؟!
وذهبت لتستشير الطبيب المعالج لمرضها، وكان كرم الله، فهي تستطيع أن تتوقف عن أخذ الدواء الفترة الأولى من تكون الجنين وهي المرحلة الخطرة، ثم تكمل العلاج بعد ذلك دون قلق اللهم لك الحمد.
وترجع الحياة لطبيعتها، ولكن تزداد جمالاً كل يوم مع نمو الطفل، فهذا ما لم يكن يتوقعه أحد الزوجين! ولكن لرضاهم بحكم الله التام منّ الله عليهما بهذه النعمة التي لم يتوقعاها، أن يرزقا بالذرية وتمر الأيام.
ولكن تلاحظ الأم أن بطنها لا تكبر كما كانت تتوقع مثل ما ترى الكثير من الحوامل غيرها!
وعند الكشف علمت السبب في ذلك!
- للأسف المياه حول الجنين قليلة جدًا وهناك خطر على حياته!
*********
الحلقة الأخيرة
أحبك ربي
تملك الحزن أفراد العائلة، وخاصة الجدة، التي ذاقت معنى فقدان الوليد، فكانت أكثرهم تأثراً، وأما الأم فكان يبكي قلبها قبل عينها، الجنين في خطر! وكان عليها أن تستريح ولا تعمل أي مجهود خشية أن تفقد كمية أخرى من المياه، وإلا !
وأخذت الأيام تمر بطيئة جداً، فكل يوم يمر على خير،، يعني أمل جديد!
وكانت المخاوف تراودها، ألهذا علاقة بمرضها؟ أهي السبب في ذلك؟ وكان ضميرها يؤنبها على أنها قد تكون السبب في أن حياة جنينها في خطر إلى هذه الدرجة! ولكن! هناك شيء آخر كانت على وشك أن تنساه الرضاعة! فالدواء يمنع أثناء الرضاعة،
يالله رحمتك بطفلي! فليس له ذنب في شيء من هذا كله!
وقررت أن تستشير الطبيب المعالج لها، عسى أن يجد لها حلًا مثل ذي قبل، وكانت إجابته: "لا طبعا! لا تستطيعين الرضاعة الطبيعية، فسيصل الدواء إلى الطفل مباشرة عن طريق اللبن".
وكانت على وشك الانهيار ولكن الله لطف بها، وثبت قلبها يارب يا من رزقتني به دون تدخلي، ارفق به، يارب اجعل حظه من الدنيا خيرًا من حظي، يارب لا تحرمني منه بعد ما أحببته، وتمنيت رؤيته، يارب إنك على كل شيء قدير!
وكانت الأيام تمر على خير، يوما تلو الآخر، ويقترب اليوم الموعود.
وكانت مشكلة الرضاعة تؤرقها يوميًا كلما اقترب الميعاد، فكم تمنت أن ترضعه من ثديها، لما في الرضاعة الطبيعية من فوائد لا يعلمها إلا الذي سخرها للرضيع، وكان اليوم الذي حدده الله ليخرج طفلها إلى الحياة، لم تكمل مدة الحمل كلها ولكن ما إن اكتمل نموه إلا وقرر الأطباء أن عليهم أن يخرجوا الطفل خوفاً عليه من الماء القليل.
وتمت الولادة بحمد الله، لتخرج إلى الحياة طفلة جميلة، قليلة الحجم كما كانت أمها ولكنها معافاة والحمد لله،
وما إن ضمتها إلى حضنها إلا وتمنت أن تخرج لها ثديها لتأكل منه، وازداد ألمها، ولكن الحمد لله أنها قد جاءت إلى الدنيا بكل خير، فهذا قدر الله فلا تطمعين! وكان كرم الله مرة أخرى، كرمه الذي غمرها طوال حياتها حين تشدد بها الشدائد فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً.
فما إن فات على الولادة أياماً قليلة، إلا وبالهاتف يرن، إنها طبيبة النساء التي كانت تتابع معها حملها، والتي كانت تعرف ظروف مرضها كاملة، وكانت متعاطفة معها ومع حالتها، تتابع معها أحوالها وتطمئن عليها
- "السلام عليكم، أبشري، لقد بحثت على شبكة الإنترنت ووجدت جدولاً للعلاج بألبان وأبوال الإبل، ولقد تم الشفاء بفضل الله الكثير ممن يعانون من مثل مرضك، والبشرى إنكِ ستستطعين أن ترضعي طفلتك دون أي خطر، حتى يكتب الله لكِ الشفاء إن شاء الله!".
وانهمرت دموعها على وجنتيها، ولكنها دموع الفرح، فهذا هو ربها، الذي لم يخذلها أبداً حين تلجأ إليه، فلك الحمد ربي يا من لا يكفيني فقط عبادتك فأني أحبك ربي، فلم أجد غيرك بجانبي في رحلتي، رحلة المبتلاة
وهي الآن مستمرة على العلاج بألبان وأبوال الإبل، وفي انتظار النتيجة بإذن الله وأسأل كل من قرأ هذه القصة أن يدعو لها بإتمام شفائها على خير، وأن يحفظ لها طفلتها وزوجها.
تم بحمد الله.
بقلم أم جويرية رحمها الله.
نسأل الله أن يرحمها رحمةً واسعة، ويغفر لها، ويكفر عنها سيئاتها، ويجعل كل ألمٍ مرّت به رفعة في درجاتها يوم القيامة ويربط على قلوب أهلها وقلوبنا، ويحفظ ابنتها من كل سوء ويجعلها صالحة مصلحة.