تلك حياة أم جويرية منذ الميلاد حتى الممات..
حمدت الأم الله على أن ساق لها هذا العلاج الجديد وأسمت ابنتها جويرية، وبدأت تضمها لصدرها وترضعها منه
وكم كانت فرحتها وهي تحمل طفلتها بين ذراعيها وتضمها لصدرها، ها هي تنهل من كل مشاعر الأمومة التي كانت تتمناها، ولكن لله الحكم من قبل ومن بعد..
بعد ستة أشهر من العلاج بأبوال وألبان الإبل تدهورت الحالة الصحية للأم، فقرر الأطباء العودة للعلاج الكيماوي عن طريق الحقن لأن الحالة متأخرة، ولا يصلح معها العلاج الطبيعي الخالي من الكيماويات، وتضطر المسكينة لإرضاع طفلتها رضاعة صناعية، وتولت الجدة (أم الأم) ذلك الأمر بسبب تدهور حالة الأم.
ولم تستسلم أم جويرية لآلامها ومرضها، بل كانت بعد كل جرعة للكيماوي -وما يصاحبه من آلام وضعف لها على ضعفها أصلاً- تكتب مقالات رائعة عن الدين الإسلامي وما فيه من قيم وأخلاق، وكانت تساعد كل من أراد المساعدة، وتنصح لمن أراد النصيحة، وكانت تحاول أن تكون زوجة وأم بقدر ما استطاعت، فكانت كالزهرة التي تنشر عبيرها في كل مكان تكون فيه..
وبعد فترة من العلاج بالحقن بدأ الجسد يكون مناعة منه ولا تؤثر فيه، مما اضطر الأطباء أن يغيروا العلاج إلى جرعة من الحبوب (الأقراص)، وأتى الأهل بالجرعة ولكن الصيدلي سامحه الله أعطاهم أقراص تحتوي على جرعة مضاعفة، ولم ينتبه أحد للأمر إلا عندما تدهورت حالتها أكثر، وأصبحت الآلام لا تطاق، فيكتشف الأطباء سبب ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله..
وأشار البعض على أم جويرية بالذهاب للعمرة والشرب من ماء زمزم والاغتسال به ففيه الشفاء بإذن الله، ولم تكذب أم جويرية الخبر ونوت الذهاب إلى العمرة متحملة آلامها ووجع عظامها تاركة ابنتها التي بلغت العام ونصف العام في رعاية أمها، وكان الوقت في الشتاء..
هناك في مكة اعتمرت أم جويرية ودعت الله ثم شربت من ماء زمزم حتى أحست بأن الماء ملأ جميع جسدها، ثم اغتسلت به وكان شديد البرودة لا يحتمله جسد ومع ذلك تحملت وظلت تغتسل به، ثم عادت إلى أهلها وابنتها، ولله الحكم هو أعلم بالخير لنا فلا راد لقضائه..
تعود أم جويرية كما هي، ثم تأتي ثورة 25 يناير وإسقاط النظام، وبعد فترة ليست بالكبيرة شح الدواء الذي تعتمد عليه أم جويرية، وتم الحجر على الأدوية في الجمارك لأن القائمين على الحكم من طنطاوي وعصابته رفضوا دفع الرسوم المقررة..
وتتدهور الحالة الصحية أكثر وتجتاح عظام المسكينة الآلام المبرحة، فكانت تصرخ من شدة الألم، مما اضطر الأطباء أن يعطوها العلاج المتاح عندهم وهو خاص بسرطان الغدد اللمفاوية، وهو علاج كيماوي شديد القوة عن المقرر لها فلم يحتمله جسدها..
وبدأت الفطريات تجتاح جميع جسد الحبيبة وتملأ فمها، وترتفع الحرارة بشكل مستمر مما جعلها لا تستطيع الأكل بسبب القيء الشديد، ولكن ظهر في الأفق أمل جديد...
لقد أخبرها الأطباء أنه يوجد علاج جديد في ألمانيا، فما كان منها إلا أن طلبت من أهلها السعي لذلك، فهي تريد الأخذ بكل الأسباب ولا تستسلم أبدًا، وبالفعل يسعى الأهل ويتم تحويل المال إلى ألمانيا، وأخذ الموافقات اللازمة لذلك..
ولكن السفارة المصرية تعرقل الموضوع وتقول نحن لا نصدق بوجود علاج لمثل تلك الحالات، وقدر الله وما شاء فعل، ومات هذا الأمل كما ظهر، وظلت على حالتها الصعبة تلك قرابة العام..
حتى اقترب دخول شهر رمضان لهذا العام، فطلبت أن تعود لبيت أبيها وتأخذ علاجها هناك، وكتبت على نفسها إقرار بذلك حتى توافق إدارة المستشفى على خروجها، وتظل المسكينة بين الآلام والآهات والمسكنات، تتحمل تارة وتصرخ تارة، وتنظر إلى ابنتها وتبكي على أنها لن تراها وهي عروس ولن تربيها، وبالرغم من ذلك لم تفقد الأمل بالعكس، فقد طلبت من أمها أن تشتري لها ملابس جديدة للعيد، وتقوم الأم فعلاً بشرائها..!
وفي فجر السابع من رمضان تنادي على أمها لتساعدها في الذهاب إلى الحمام كي تتوضأ للصلاة، ولكن قدمها لم تساعدها فكانت شبه ميتة، مما اضطرها للتيمم والصلاة في مكانها، وفي الثامنة صباحًا يعلو صوتها من شدة الألم لتهرع أمها بالاتصال بالإسعاف..
ولكن أم جويرية تطلب منها أن تحضنها قبل أن تذهب للاتصال، فتقول لها الأم أنت لا تحتملين الألم، فكيف ستتحملين ضمتي لك؟! فتقول ضميني أحتاج لحضنك، فتحتضنها الأم برفق، وتمسك أم جويرية بيد أمها وتقبلها قائلة: سامحيني تعبتك معايا، وبدل أن أخدمك أنا أنتِ من تخدميني وتقومي بتربية ابنتي..
فتقول الأم إن الله أعطاها القوة لذلك فنحمده تعالى، وتوصي أم جويرية أمها بوصيتها وهي: (أن يخصص المال الذي كان سينفق على علاجها للفقراء والمحتاجين، وأن تخرج جميع ملابسها للمحتاجين حتى ملابس العيد، وأن تدفن في مدافن شرعية وتكون في لحد، وحددت من سيقف على غسلها).
تستمع الأم إلى الوصية جيدًا -وقد نفذت فعلا كما طلبت- ثم تذهب لتتصل بالإسعاف وتخبره بضرورة الحضور سريعًا، فيرد عليها بكل برود أن جميع العربات في التجديد، تفقد الأم أعصابها وتصرخ فيه، فيستيقظ ابنها على صوتها ويعرف منها أن حالة أخته خطيرة..
يتصل الأخ بالنجدة ويشرح له الحالة فترسل النجدة إحدى سيارات الإسعاف الطائر..
في الفترة ما بين اتصال الابن وحضور عربة الإسعاف، جلست الأم تقرأ في القرآن لعل الله ينزل السكينة على قلبها، وقرأت أكثر من عشرة أجزاء في خلال تلك الفترة، وإذا بها ينتابها بكاء شديد تفيق منه على صوت عربة الإسعاف، فتذهب سريعًا كي تساعد في حمل ابنتها..
تدخل الأم على ابنتها فتجدها مسبلة العينين وعلى وجهها ابتسامة جميلة تظهر معها السنتين الأماميتن!
تنادي على ابنتها فلا ترد، تدخل جويرية التي لم تتم عامها الثالث بعد لتقول لجدتها: "شوفي إيه اللي على فم ماما" فتجد الأم بعض الرغاوي على جانب الفم، والجسد ساكن تمامًا فتعلم أن ابنتها صعدت روحها للرفيق الأعلى، فتسترجع وتستعوض الله..
يدخل رجال الإسعاف فتقول لهم ابنتي خلاص، ولكنهم يقوموا بعمل صدمات كهربائية للقلب لعل هناك أمل، ولكن أمر الله نافذ، ولكل أجل كتاب.. رحلت الحبيبة، وسكنت الآلام..
وكانت تلك حياة أم جويرية منذ الميلاد حتى الممات..
فاللهم ارحمها وأنزلها منازل الصديقين والشهداء والصالحين، واجعل ما عانته من آلام في ميزان حسناتها وكفارة لها.
اللهم أبدلها دارًا خير من دارها، وأهلاً خيرًا من أهلها، وحياة لا تعب فيها ولا ألم، واللهم اربط على قلب أمها، وبارك في ابنتها وارزقها الصلاح والتقوى، واجعل حياتها سعادة لا تذوق فيها ألمًا أبدًا، وعوضها الصدر الحنون الذي فقدته منذ صغرها..
واللهم صلِ وسلم وبارك على الحبيب المصطفى وعلى آله وصحبه وسلم.