غرفة مغلقة وصمت مهيب حجب صخب الكون، غرفة خالية إلا من جسد مُسجى على سرير، وقد خلى الجسد من أي ملامح للحياة، وبجانبه وقف شاب يبكي، ولكنه بكاءا ليس كالبكاء، وارتج كيانه بعاصفة حزن وندم ما بعده ندم.
غرفة مغلقة وصمت مهيب حجب صخب الكون، غرفة خالية إلا من جسد مُسجى على سرير، وقد خلى الجسد من أي ملامح للحياة، وبجانبه وقف شاب يبكي، ولكنه بكاءا ليس كالبكاء، وارتج كيانه بعاصفة حزن وندم ما بعده ندم.
إغفر لي يا أبي تقصيري..
مر على خاطره ذكرياته مع أبيه، صغيرًا يحمله أباه، ومراهقًا صادق أباه، وشابًا لم يستطع أن يواجه مصاعب الحياة إلا بإرشادات والده وماله، ثم رجلًا جاحدًا لأباه.
تذكر أمه التي ماتت بدون أن يودعها، أمه التي ماتت بدون أن يبرها، وقد فقد معها نصف فرصته في النجاة،
كان قد نسي قول الرسول الكريم: «رغم أنفه ثم رغم أنفه من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة» (صحيح الجامع، 3511).
تذكرها عند وفاة أمه، وعاهد نفسه على ألا يضيع النصف الأخر من الفرصة، وألا يضيع فرصة وجود أباه على قيد الحياة، وما أن مرت عدة أيام حتى عاد كعهده الأول، ناكرًا وجاحدًا لوجود أبيه الذي لم يكن بحاجة إلا لكلمة طيبة، وقبلة على اليد تشعره بوجود من يحبه، أنسته الدنيا ومشاغلها بر والده وغرته الأماني، وكلما سمع حديث للرسول صلى الله عليه وسلم، يحض على بر الوالدين، كان يقول لنفسه بأن العمر طويل، وأباه بصحة جيدة، وسيعوضه خيرًا عن كل الإهمال الذي وجده منه، وقد كان يعدها نية وماهي في الحقيقة إلا أمنية، {ولكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّـهِ وَغَرَّكُم بِاللَّـهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14].
نظر إلى الجسد المُسجى أمامه طويلا، وكأنه غير مصدق أن نصف الفرصة الوحيد قد أهمله حتى أتى أمر الله من حيث لا يحتسب، جال بخاطره أنه بداخل كابوس مزعج سيصحو منه سريعًا، وسيجري على يد والده يقبلها ويترجاه أن يسامحه على ما مضى، حاول أن يصرخ، يجري، يفعل أي شيء حتى يخرج من ذلك الكابوس... ولكنه ظل في مكانه، وسمع الشيطان يضحك ويخرج له لسانه ليعلن إنتصاره الأكبر.
حاول أن يهز الجسد، حاول أن يعيده إلى الحياة، ولكنه سمعها في قلبه قوية، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة:8]، أحس كأنه يهوي في بئر سحيق، حتى فتح باب الغرفة ودخل رجل عجوز مشى بخطوات بطيئة ووقف أمام الجسد، لحظة مرت قبل أن ينهار على الجسد وهو يبكي.
أبي..
صرخ الشاب بها ولكن أباه لم يشعر بوجوده، جرى نحوه وحاول أن يحتضنه، أن يقبل قدمه، أن يتأسف له عما بدر منه تجاهه، حاول أن يطلب منه المغفرة والسماح، ولكن أباه لم يشعر بوجوده، ولم يكف عن بكاءه وتقبيله لوجه الجسد الميت.
صرخ الشاب طالبًا العودة وتصحيح أخطاءه: {...رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا}، فجاءه الجواب من مكان لا يدريه: {كَلَّاإِنَّهَاكَلِمَةٌهُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99-100].
يارب لو أعدتني لما عدت لعصياني وجحودي: {بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]، ثم شعر بقوة تبعد أباه عنه أن تجذبه إلى هوة سحيقة والصوت في قلبه يتردد: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94].