الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فارتقاء الأمم ونهضتها لا يكون إلا على يد علمائها، وإن أمة لا توقِّر علماءها أمة محرومة من التقدم والازدهار، فالعلماء منارات الأرض كما أن النجوم منارات السماء، علمهم إرث من الأنبياء يرشدون به الضال عن الطريق، والحائد عن الصراط المستقيم؛ يقوِّمون من اعوجَّ، ويؤيدون من استقام على الجادة.
علمهم حاكم على حكامهم: عن أبي الأسود قال: "ليس شيء أعز من العلم، وذلك أن الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك" (جامع بيان العلم).
من ارتضاهم كما أراد الله فوقرهم وأجلسهم وقدَّمهم على غيرهم؛ أعانه الله على نفسه وعلى رعيته وعلى حكمه، ومن ازدراهم وانتقصهم؛ أزال الله ملكه وحقَّر شأنه وأضعف قوته، وجعله عبرة لغيره.
فضل العلم:
العلم عليه مدار الأحكام وسياسة الأنام -الكرام واللئام-، من تفقه فيه وتعبد لله به صار أعبد العابدين. عن معمر عن الزهري قال: "ما عُبد الله بمثل العلم". وقال بعض العلماء: العلم: صلاة السر وعبادة القلب، ما نُسب إليه أحد إلا ورفعه وأعلى قدره، وما تركه أحد إلا وحطه ووضعه، قال -تعالى-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة:11).
والعلم فُضِّل به النبيون بعضهم على بعض: عن زيد بن أسلم في قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) (الإسراء:5)، قال: "في العلم". وما طلب النبي -صلى الله عليه وسلم- الزيادة في شيء من الدنيا إلا منه، كما أمره الله -عز وجل-: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه:114).
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "واضح الدلالة في فضل العلم؛ لأن الله -تعالى- لم يأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم، والمراد بالعلم: العلم الشرعي" (فتح الباري).
والعلم فضل الأنبياء لمن بعدهم: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (الْعِلْمَ) (متفق عليه).
قال ابن حجر -رحمه الله-: "الفضل هنا بمعنى: الزيادة. أي: ما فضل منه، قال ابن المنير: وجه الفضيلة للعلم في الحديث من جهة أنه عبَّر عن العلم بأنه فضلة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونصيب مما آتاه الله، وناهيك بذلك".
والعلم حسنة الدنيا: عن هشام عن الحسن في قوله -تعالى-: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً... ) (البقرة:201)، قال: "العلم والعبادة. (وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً) قال: الجنة".
وما امتدح الله أحدًا في كتابه إلا بسببه، قال ابن القيم -رحمه الله-: "كل ما كان في القرآن من مدح للعبد فهو من ثمرة العلم، وكل ما كان فيه من ذم للعبد فهو من ثمرة الجهل". وكفى شرفًا لصاحبه ما قاله ابن القيم -رحمه الله-: "ولو لم يكن في العلم إلا القرب من رب العالمين، والالتحاق بعالم الملائكة وصحبة الملأ الأعلى؛ لكفى به شرفًا وفضلاً؛ فكيف وعز الدنيا والآخرة منوط به، مشروط بحصوله؟!".
من صار عنده العلم أضحى خريتًا في عبادته، والجاهل متحيرًا في ضلالته: قال الله -تعالى-: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر:9).
قال صاحب "التحرير والتنوير": "أي: لا يستوي الذين لهم علم فهم يدركون حقائق الأشياء على ما هي عليه وتجري أعمالهم على حسب علمهم، مع الذين لا يعلمون فلا يدركون الأشياء على ما هي عليه، بل تختلط عليهم الحقائق وتجري أعمالهم على غير انتظام، كحال الذين توهموا الحجارة آلهة، ووضعوا الكفر موضع الشكر".
فضل العلماء:
العلماء هم قمر الليل وشمس النهار، من يضيئون للناس ظلمات طرقهم، ويبصرونهم من عمى بصيرتهم وقلوبهم، أراد الله بهم خيرًا ففقههم في دينه، عن ابن عباس ومعاوية -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) (متفق عليه).
وهم أهل الخشية لله: قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر:28).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم، الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر".
وكفى في فضلهم مقالة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) (رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ) (رواه أحمد والحاكم، وحسنه الألباني).
وعن عبد الرحمن بن شريح قال: سمعت عبد الله بن أبي جعفر يقول: "العلماء منار البلاد، منهم يقتبس النور الذي يهتدى به". وعن ميمون قال: "إن مثل العالم في البلد كمثل عين عذبة في البلد".
ولهذا كان لزامًا إنزال العالم منزلته ومعرفة حقه: قال طاوس بن كيسان: "إن من السنة أن توقِّر العالم". وعن الشعبي قال: "أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت فقال: أتمسك لي وأنت ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! قال: إنا هكذا نصنع بالعلماء". وقال العلامة السعدي -رحمه الله-: "من عقيدة أهل السنة والجماعة: أنهم يدينون لله باحترام العلماء الهداة".
حرمة العلماء:
"
لحوم العلماء أشواك من أمسك بها مزقت يديه، ومن أكلها أدمت فاه
"
وإن كان غير تقديرهم وتعظيم شأنهم؛ فالويل والثبور والهلاك لمن حاول طمس نورهم أو القدح في شخصهم، فإن "لحوم العلماء أشواك؛ من أمسك بها مزقت يديه، ومن أكلها أدمت فاه"، وفي الحديث القدسي: (مَنْ عَادَى ليَ وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ) (رواه البخاري).
روى الخطيب البغدادي عن أبي حنيفة والشافعي -رحمهما الله- أنهما قالا: "إن لم يكن الفقهاء أولياء لله فليس لله ولي"، وقال الشافعي: "الفقهاء العاملون". أي أن المراد: هم العلماء العاملون.
وعن عكرمة -رحمه الله-: "إياكم أن تؤذوا أحدًا من العلماء، فإن من آذى عالمًا فقد آذى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
لما استهزأ رجل من المنافقين بالصحابة -رضي الله عنهم- قائلاً: "ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء"؛ أنزل الله -عز وجل-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ . لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (التوبة:65-66).
قال ابن المبارك -رحمه الله-: "من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته". وقال الإمام أحمد بن الأذرعي: "الوقيعة في أهل العلم -ولا سيما أكابرهم- من كبائر الذنوب". وروي عن الإمام أحمد أنه قال: "لحوم العلماء مسمومة، من شمَّها مرض، ومن أكلها مات".
عن مخلد قال: حدثنا بعض أصحابنا قال: "ذكرتُ يومًا عند الحسن بن ذكوان رجلاً بشيء، فقال: "مه! لا تذكر العلماء بشيء فيميت الله قلبك". وقال بعض العلماء: "أعراض العلماء على حفرة من جهنم".
قال الحافظ ابن عساكر -رحمه الله-: "واعلم يا أخي -وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته-: أن لحوم العلماء -رحمة الله عليهم- مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمر عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاق على من اختاره الله منهم لِنَعش العلم خلق ذميم... ". وقال: "وكل من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله -تعالى- قبل موته بموت القلب"، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63).
بيد أنه بيْن فضلهم وحرمة أعراضهم كانت خطورتهم، فالعالِم أخطر رجل في أرض الظلم وأرض الضلال، وكيف لا؟! وهل أرَّق الحكام والمنافقين إلا العلماء؟!
وللحديث بقية -إن شاء الله- إن كان في الأجل بقية...
وصلِّ اللهم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم.