" يا باغي الخير أقبل "
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلي الله عليه و سلم :" إذا كان أول ليلة من شهر رمضان , صُفِّدت الشياطين ومردة الجن , وغُلِّقت أبواب النار , فلم يُفتح منها باب , وفُتحت أبواب الجنة , فلم يغلق منها باب , وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل , ويا باغي الشر أقصر , ولله عتقاء من النار , وذلك كل ليلة " [ رواه الترمذي وابن ماجه , وابن خزيمة في ( صحيحه ) , والبيهقي ] .
إن خير الهدي هدي محمد صلي الله عليه و سلم , ومن هديه في هذا الموضع المبادرة إلى تذكير الناس ببركات هذا الموسم العظيم , فقد قال لأصحابه في أول ليلة من رمضان :
" أتاكم شهر رمضان , شهر مبارك , فرض الله عليكم صيامه , تفتح فيه أبواب السماء , وتغلق فيه أبواب الجحيم , وتُغَلُّ فيه مردة الشياطين , لله فيه ليلة خير من ألف شهر , من حُرِمَ خيرها فقد حُرِمَ " [ رواه النسائي والبيهقي , وحسنه الألباني ].
كيف يستقبل باغي الخير رمضان ؟
أولاً: بالمبادرة إلى التوبة الصادقة , المستوفية لشروطها , وكثرة الاستغفار , لأنه شُرِعَ في استفتاح بعض الأعمال , كما في خطبة الحاجة (( نحمده , ونستعينه , ونستغفره )) كما
نُدب إليه مطلقاً , وقال الله : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ( [ التحريم:8 ].
ثانياً: بتعلم ما لابد منه من فقه الصيام , أحكامه وآدابه , والعبادات المرتبطة برمضان من اعتكاف وعمرة وزكاة فِطر , وغيرها , قال رسول : " طلب العلم فريضة على كل مسلم " .
ثالثاً: عقد العزم الصادق والهمة العالية على تعمير رمضان بالأعمال الصالحة , قال تعالى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [ محمد:21 ] , وقال جلا وعلا: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً َ} (46) سورة التوبة ، وتحري أفضل الأعمال فيه وأعظمها أجراً .
رابعاً: استحضار أن رمضان كما وصفه الله عزَّ وجلَّ أيام معدودات ، سرعان ما يولي ، فهو موسم فاضل ، ولكنه سريع الرحيل ، واستحضار أن المشقة الناشئة عن الاجتهاد في العبادة تذهب أيضاً ، ويبقى الأجر ، وشَرْحُ الصدر ، فإن فرط الإنسان ذهبت ساعات لهوه وغفلته ، وبقيت تبعاتها وأوزارها .
خامساً: الاجتهاد في حفظ الأذكار والأدعية المطلقة منها والموظفة ، خصوصاً الوظائف المتعلقة برمضان ، استدعاءً للخشوع وحضور القلب ، واغتناماً لأوقات إجابة الدعاء في رمضان ، والاستعانة على ذلك بدعاء: " اللهم أعنِّي على ذكرك ، وشكرك ، وحُسن عبادتك " ، وهاك الأذكار الثابتة المتعلقة بوظائف رمضان:-
ما يقول إذا رأى الهلال ([1]) :
- يقول مستقبلَ القبلة ([2]): الله أكبر ، اللهم أَهِلَّه علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، والتوفيقِ لما تحب وترضى ، ربنا وربكَ الله .
- وإذا رأى القمر ، قال: أعوذ بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب ([3]) .
- وإذا صام ، فلا يرفث ، ولا يجهل ، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: " إني صائم ، إني صائم " ([4]) ( مرتين أو أكثر ) .
ماذا يقول عند الإفطار ؟
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: " ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم ، ودعوة المظلوم ، ودعوة المسافر " .
وهذه الدعوة التي لا ترد تكون عند فطره ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلي الله عليه و سلم: " ثلاث لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر ، والإمام العادل ، ودعوة مظلوم " ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: " إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد " .
- وأفضل الدعاء الدعاء المأثور عن رسول الله ، فقد كان يقول إذا أفطر: " ذهب الظمأ ، وابتلت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله " .
- وعن معاذ بن زهرة أن النبي كان إذا أفطر قال: " اللهم لك صمت ، وعلى رزقك أفطرت " [ رواه أبو داود مرسلاً ، وقال الألباني: " لكن له شواهد يتقوى بها " ] .
- وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول عند فطره: " اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي " [ رواه أبو داود ] .
سادساً: الاستكثار من الأعمال الصالحات ، فإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، ومن ذلك :
[1] صيام شعبان: استعداداً لرمضان ، فعن أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- قالت: " ما رأيت رسول الله صلي الله عليه و سلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان ، وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان " .
[2] تلاوة القرآن الكريم: فإن رمضان هو شهر القرآن فينبغي أن يكثر العبد المسلم من تلاوته وحفظه ، وتدبره ، وعرضه على من أقرأ منه .
كان جبريل يدارس النبي صلي الله عليه و سلم القرآن في رمضان ، وعارضه في عام وفاته مرتين ، وكان عثمان بن عفان –رضي الله عنه- يختم القرآن الكريم كل يوم مرة ، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال ، وبعضهم في كل سبع ، وبعضهم في كل عشر ، فكانوا يقرءون القرآن في الصلاة وفي غيرها ، فكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة ، وكان الأسود يقرأ القرآن كل ليلتين في رمضان ، وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً ، وفي رمضان في كل ثلاث ، وفي العشر الأواخر في كل ليلة ، وكان الزهري إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ، ويقبل على تلاوة المصحف .
وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة ، وأقبل على قراءة القرآن ، قال الزهري: " إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن ، وإطعام الطعام " .
قال الحافظ ابن رجب –رحمه الله- : " وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقلَّ من ثلاث على المدوامة على ذلك ، فأما الأوقات المفضلة – كشهر رمضان – خصوصاً الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر – أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها ، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً للزمان والمكان ، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة ، وعليه يدل عمل غيرهم " اهـ .
[3] قيام رمضان: فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: " كان رسول الله صلي الله عليه و سلم يُرَغِّب في قيام رمضان ، من غير أن يأمرهم بعزيمة ، ثم يقول: " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " ، وجاء رسول الله صلي الله عليه و سلم رجل من قضاعة ، فقال: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وصليت الصلوات الخمس ، وصمت الشهر ، وقمت رمضان ، وآتيت الزكاة ؟ " فقال النبي صلي الله عليه و سلم: " من مات على هذا كان من الصديقين والشهداء " .
[4] الصدقة: (( فقد كان صلي الله عليه و سلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان ، كان أجود بالخير من الريح المرسلة ، ولا يُسأل شيئاً إلا أعطاه )) .
وقالصلي الله عليه و سلم: " أفضل الصدقة صدقة في رمضان " .
ومن صور الصدقة إطعام الطعام ، وتفطير الصوام ، قال صلي الله عليه و سلم: " من فطَّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا يُنْقِصُ من أجر الصائم شيئاً " ، فإن عجز عن عَشائه فطَّره على تمرة أو شربة ماء أو لبن ، وقالصلي الله عليه و سلم: " اتقوا النار ، ولو بشق تمرة " ، وعن عليّ –رضي الله عنه- قال رسول الله صلي الله عليه و سلم: " إن في الجنة غُرفاً يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام ، وألان الكلام ، وتابع الصيام ، وصلي بالليل والناس نيام " ، وقال صلي الله عليه و سلم: " صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وصدقة السر تطفيء غضب الرب ، وصلة الرحم تزيد في العمر " .
وقال رسول الله صلي الله عليه و سلم: " أيما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع ؛ أطعمه الله من ثمار الجنة ، ومن سقى مؤمناً على ظمأ ؛ سقاه الله من الرحيق المختوم " .
وقال بعض السلف: (( لأن أدعو عشرة من أصحابي ، فأطعمهم طعاماً يشتهونه أحب إليَّ من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل )) .
وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره وهو صائم ، منهم عبد الله بن عمر ، وداود الطائي ، ومالك بن دينار ، وأحمد بن حنبل ، وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين ، وربما علم أن أهله قد ردوهم عنه ، فلم يفطر في تلك الليلة .
وكان من السلف من يطعهم إخوانه الطعام وهو صائم ، ويجلس يخدمهم ويروحهم ، منهم الحسن وابن المبارك ، وقال أبو السوار العدوي: (( كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده ، إن وجد من يأكل معه أكل ، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد ، فأكله مع الناس وأكل الناس معه )) ، قال الإمام الماوردي –رحمه الله-: (( ويستحب للرجل أن يوسع على عياله في شهر رمضان ، وأن يحسن إلى أرحامه وجيرانه ، لا سيما في العشر الأواخر منه )) اهـ.
وإذا دُعي المسلم الصائم عليه أن يجيب الدعوة ، لأن من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم r ، وينبغي عليه أن يعتقد جازماً أن ذلك لا يضيع شيئاً من حسناته ، ولا ينقص شيئاً من أجره .
ويستحب للمدعو أن يدعو للداعي بعد الفراغ من الطعام بما جاء عن النبي صلي الله عليه و سلم وهو أنواع ، كقوله صلي الله عليه و سلم :
+" أكل طعامَكم الأبرارُ ، وصلت عليكم الملائكة ، وأفطر عندكم الصائمون " .
+" اللهم أطعم من أطعمني ، واسق من سقاني " .
+" اللهم اغفرلهم ، وارحمهم ، وبارك لهم فيما رزقتهم " .
[5] المكث في المسجد بعد صلاة الفجر: فقد كان صلي الله عليه و سلم إذا صلى الغداة جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس ، وقال صلي الله عليه و سلم: " من صلى الفجر في جماعة ، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة " .
فعلى المرء أن يجمع همته ليغتنم هذا الزمان الشريف ، ولا يضيره انصراف أكثر الناس عن هذه السُّنَّة ، بل الحازم ينظر في أمر الدين إلى من هو فوقه ، ومن هو أنشط منه {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (26) سورة المطففين .
وقد يُحرم المرء من هذه السُّنَّة الجليلة لإفراطه في السهر أو السمر بعد العشاء .
[6] الاعتكاف: فقد كان صلي الله عليه و سلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام ، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً .
[7] العمرة: فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلي الله عليه و سلم لما رجع من حجة الوداع ، قال لامرأة من الأنصار اسمها أم سنان: " ما منعك أن تحجي معنا ؟ " قالت: أبو فلان –زوجها- له ناضحان ([5]) ، حج على أحدهما ، والآخر نسقي عليه ، فقال لها النبي صلي الله عليه و سلم : " فإذا جاء رمضان فاعتمري ، فإن عمرة فيه تعدل حجة ، أو قال: حجة معي " .
ومما ثبت في فضائل العمرة :
قوله صلي الله عليه و سلم: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما " .
وقوله صلي الله عليه و سلم: " الحجاج والعُمَّار وفد الله : دعاهم فأجابوه ، وسألوه فأعطاعهم " .
وقال صلي الله عليه و سلم: " من طاف بهذا البيت أسبوعاً –أي سبعة أشواط- فأحصاه ،كان كعتق رقبة ، لا يضع قدماً ، ولا يرفع أخرى إلا حطَّ الله عنه بها خطيئة ، وكتب له بها حسنة " .
[8] تحري ليلة القدر: التي قال تعالى في شأنها: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1)وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2)لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3)} سورة القدر .
قال صلي الله عليه و سلم : " من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " .
وقال صلي الله عليه و سلم : " من قامها ابتغاءها ، ثم وقعت له ؛ غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " .
وكان صلي الله عليه و سلم يتحرى ليلة القدر ، ويأمر أصحابه بتحريها ، وكان يعتكف لذلك ، وكان يوقظ أهله في ليالي العشر رجاء أن يدركوها .
وعن أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- قالت: قلتُ: يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول ؟ قال: " قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو ، فاعف عني " .
ويستحب أن يتحرى ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ، خصوصاً الليالي الوتر منها ، لقوله صلي الله عليه و سلم: " التمسوها في العشر الأواخر في الوتر " ، ورجح بعض العلماء أنها ليلة السابع والعشرين .
[9] الإكثار من النوافل بعد الفرائض: كالسُّنن القبلية والبعدية ، وصلاة التسبيح ، والضحى ، والذكر والاستغفار ، والدعاء خصوصاً في أوقات الإجابة ، وعند الإفطار ، وفي ثلث الليل الآخر ، وفي الأسحار ، وساعة الإجابة يوم الجمعة .
حق شهر الصيام شيئان إن كنت من الموجبين حـق الصيام.
تقطـع الصوم في نهارك بالذكر وتفنـى ظلامـه بالقيـام.
[10] المحافظة على صلاة الجماعة في المسجد: والاجتهاد في تطبيق قول رسول الله صلي الله عليه و سلم : " من صلى لله أربعين يوماً في جماعة ، يدرك التكبيرة الأولى ، كتب له براءتان: براءة من النار ، وبراءة من النفاق " .
قال سعيد بن المسيب: (( من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة ؛ فقد ملأ البر والبحر عبادةً )) .
هذه إلمامة عجلى ببعض مظاهر الخير الذي ينادي من يقصده وينويه في أول ليلة من رمضان: " يا باغي الخير أقبل " ،
([1]) أي هلال أيِّ شهر ، ولا يختص برمضان .
([2]) وذلك لأنه " لا يستقبل بالدعاء إلا ما يستقبل بالصلاة " .
([3]) الغسق: الظلمة والوقوب: الدخول في الظلمة ونحوها ، " فلعل سبب الاستعاذة منه في حال وقوبه لأن أهل الفساد ينتشرون في الظلمة ، ويتمكنون فيها أكثر مما يتمكنون منه في حال الضياء ، فيقدمون على العظائم وانتهاك المحارم ، فأضاف فعلهم في ذلك الحال إلى القمر ، لأنهم يتمكنون منه بسببه ، وهو من باب تسمية الشيء باسم ما هو من سببه ، أو ملازم له " أفاده الحافظ أبو بكر الخطيب .
([4]) والأظهر أنه يسمعه ذلك لينزجر .
([5]) الناضح: الدابة يُسْتَقَى عليها .