كتبه/ مصطفى دياب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله, أما بعد،
فتى الإسلام:
أعرف أنك تشتكي دائماً من الأب والأم والمدرسين والمصلين في المسجد، تشتكي أنهم يعاملونك على أنك مازلت صغيراً لم تكبر بعد، وللأسف فإن الناس تنظر لمن كان في سن العاشرة من عمره أنه صغير، ويعامل معاملة الصغير، وكذلك من كان في الثانية عشر من عمره يُعامل على أنه صغير، حتى الفتى ابن الستة عشر عاماً يعامل على أنه صغير، وربما يعامل من هو أكبر من ذلك على أنه صغير فمثلاً جدك يعامل والدك على أنه صغير، ولكني أقولها لك صريحة "أنت لست صغيراً".
وأظنك سوف تجري الآن لتنادي من حولك, الأب, الأم, الأقارب، اقرءوا معي..."أنت لست صغيراً"، وأقول لك مهلاً يا أخي فأنت قد تكون صغير السن ولكنك كبير القدر، والذي أريد أن أتفق معك عليه، هو أنك مادمت تفهم ما يقال لك فلست صغيراً مهما كان سنك، وإذا فهمت واستطعت أن تتعرف على أوامر ربك فقد شابهت الرجال في مبدأ الفهم وبقي أن تحاول أن تكون مثل الصالحين منهم في تطبيق كل ما تتعلمه وأن لا تقدم على فعل شيء تعرف أنه يغضب ربك.
أخي الفتى الحبيب: إذا هممت بفعل شيء فسل نفسك هل هذا يرضي الله أم لا؟ فإن كان يرضيه فافعل وإلا فاحذر وارجع، وإذا فعلت هذا أصبحت كبيراً، بل تصبح أكبر من كثير من الكبار الذين يعصون الله -تبارك وتعالى-، وكان عتبة بن غزوان -رضي الله عنه- يقول: "فإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً".
فليس الشأن أن تكون كبير السن صغيراً عند ربك بمعصيتك إياه، ولكن الشأن أن تكون عظيماً كبيراً عند ربك بطاعته وتقواه، فكم من صغير السن عظيم القدر عالي الهمة (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات: 13)، واعلم أن المرء بأصغريه، بقلبه ولسانه، فإذا رزق الله العبد لساناً لافظاً وقلباً حافظاً فقد استحق الكلام، ووجود الأدب والحياء عندك لا يعني الضعف والخوف، بل إذا صاحب ذلك الشجاعة الأدبية وتعودت عليها كانت صفة فيك فتقوى شخصيتك، ويتفتق ذهنك، وينضج عقلك.
وهكذا كان أبناء السلف -رضي الله عنهم- فعن سهل بن سعد قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه وعن يمينه غلام أصغر القوم والأشياخ عن يساره فقال يا غلام أتأذن أن أعطيه الأشياخ فقال ما كنت لأوثر بفضل منك أحدا يا رسول الله فأعطاه إياه) متفق عليه، فلم يعنفه النبي -صلى الله عليه وسلم- أو يزجره، ولا أحد من الحاضرين فعل شيئاً من ذلك، ولربما فعل بعضنا ذلك، فليفرق بين سوء الأدب والشجاعة الأدبية.
وكذلك الزبير بن العوام حواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى، وأول من سل سيفه في سبيل الله، أبو عبد الله -رضي الله عنه- أسلم وهو حدث له ست عشرة سنة، وقال عروة: "أسلم الزبير ابن ثمان سنين، ونفحته نفحة من الشيطان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بأعلى مكة، فخرج الزبير وهو غلام ابن اثنتي عشرة سنة بيده السيف، فمن رآه عجب، وقال: الغلام معه السيف؟!!، حتى أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ما لك يا زبير؟ فأخبره، وقال: أتيت أضرب بسيفي من أخذك. إنه الفداء الحق, والولاء الحق, للرسول الحق -صلى الله عليه وسلم-.
أخي الحبيب فتى الإسلام: إنك حين تقلب صفحات التاريخ, تاريخ سلفك الصالح سوف تدهشك النماذج الرائعة من فتيان هذه الأمة الخالدة، فهذا عمرو بن سلمة كان يؤم قومه وهو ابن سبع سنين أو ثمان، فانظر -رعاك الله- إلى هذا الطفل وهو يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح ويتلقى القرآن والعلم ويحفظ ما تلقاه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان يستقر في صدره إلى أن أسلم قومه فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يصلي بهم أحفظهم، فكان الحافظ القارئ هو ذاك الطفل الصغير الذي صار إماما للناس بما جمع من القرآن فالقرآن يرفع الله به أقواماً ويضع به آخرين وكان عمرو ممن رفعه الله -تعالى- بالقرآن. الله أكبر.. ما هذه الأعمار المباركة في هذا الجيل المبارك؟!!
وهذا بطل آخر وإن شئت فقل فتى آخر، هاجر مع أهل بيته وأقاربه وله عشر سنين وحفظ القرآن ولزم الاشتغال من صغره في طلب العلم حتى صار إمام الحنابلة بجامع دمشق وكان عابداً زاهداً ورعاً ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامه إنه إمام الأئمة ومفتي الأمة -يومها- خصه الله بالعقل الوافر، فطنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار، وله مؤلفات غزيرة وقد صنف كتابه "المغني" في عشر مجلدات و"الكافي" في أربعة وغيرها من الكتب.
أظنك عرفت هذا العالم البحر الذي حفظ القرآن وعمره عشر سنين ورحل وتحمل المشقة في طلب العلم فألبسه الله لباس النور والوقار وصار من أذكياء العالم بما ناله من بركة القرآن والعلم, إنه العلامة "ابن قدامة المقدسي" -رحمه الله-.
أخي الفتى الحبيب: إن صفحات تاريخنا السلفي لا تحمل في طياتها سيرة الرجال فحسب، بل وفضليات النساء كذلك فهذه سلمى بنت محمد بن الجزري -أم الخير- شرعت في حفظ القرآن 813 هجرياً وحفظت مقدمة التجويد ومقدمة النحو ثم حفظت الألفية وعرضت القرآن على والدها حفظاً بالقراءات العشر وأكملته قراءة صحيحة مجودة مشتملة على جميع وجوه القراءات.
فانظر إلى تلك الأعمار المبكرة المباركة كيف صاروا علماء أعصارهم وفقهاء أمصارهم؟! وقد كانوا فيما يرى الناس صغاراً.
أخي الفتى الحبيب:ـ
* لحظة من فضلك *
لعلك أدركت أن الكبير لا